فصل: تفسير الآيات (17- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (12):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ} {ناجَيْتُمُ} ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها.
وقال الحسن: نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لان الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فانتهى أهل الباطل عن النجوى، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الايمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية.
الثانية: قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر.
وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء. والامر في قوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم.
الثالثة: روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} سألته قال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ترى دينارا» قلت لا يطيقونه. قال: «فنصف دينار» قلت: لا يطيقونه. قال: «فكم» قلت: شعيرة. قال: «إنك لزهيد» قال فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الأولى: نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية: النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لابي حنيفة. قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} كان لي دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}. وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من إمساكها {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من المعاصي {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} يعني الفقراء {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (13):

{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: {أَأَشْفَقْتُمْ} أي أبخلتم بالصدقة، وقيل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم {أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}. قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} فنسخت فرضيه الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لان الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. {أَطِيعُوا اللَّهَ} في فرائضه {وَرَسُولَهُ} في سننه {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.

.تفسير الآيات (14- 16):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود {ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرة من حجراته إذ قال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل- وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- فقال عليه الصلاة والسلام: «علام تشتمني أنت وأصحابك» فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية.
وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: «يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان» فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك» قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شي، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} إلى قوله: {هُمُ الْخاسِرُونَ} واليهود مذكورون في القرآن و{غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} أي لهؤلاء المنافقين {عَذاباً شَدِيداً} في جهنم وهو الدرك الأسفل. {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس الأعمال أعمالهم {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية {إيمانهم} بكسر الهمزة هنا وفي المنافقون. أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم {فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} في الدنيا بالقتل وفى الآخرة بالنار. والصد المنع {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الإسلام.
وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق.
وقيل: أي بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم.

.تفسير الآيات (17- 19):

{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)}
قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي من عذابه شيئا.
وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا! فو اللّه لتنصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ} اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعارف ضرورية.
وقال ابن عباس: هو قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ}. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ} بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة.
وقيل: {وَيَحْسَبُونَ} في الدنيا {أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ} لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأوّل أظهر. وعن ابن عباس قال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: «ينادى مناد يوم القيامة أين خصماء اللّه فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقّة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون واللّه ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها». قال ابن عباس: صدقوا واللّه! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} هم واللّه القدرية. ثلاثا.
قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ} أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا.
وقيل: قوى عليهم.
وقال المفضّل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال:
أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوى عليهم وأحاط بهم.
فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي أوامره في العمل بطاعته.
وقيل: زواجره في النهى عن معصيته.
والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ طائفته ورهطه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.

.تفسير الآيات (20- 21):

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تقدم أوّل السورة. {أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} أي من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} أي قضى اللّه ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. {أَنَا} توكيد {وَرُسُلِي} من بعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح اللّه لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا اللّه على فارس والروم، فقال عبد اللّه بن أبي بن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! واللّه إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}. نظيره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ}.

.تفسير الآية رقم (22):

{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ أي يحبون ويوالون مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تقدّم {وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ} قال السدى: نزلت في عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ، جلس إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فشرب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ماء، فقال له: باللّه يا رسول اللّه ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبى، لعل اللّه يطهّر بها قلبه؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبد اللّه: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم جئتك بها تشر بها لعل اللّه يطهّر قلبك بها.
فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وقال: يا رسول اللّه! أما أذنت لي في قتل أبى؟ فقال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم:«بل ترفق به وتحسن إليه».
وقال ابن جريح: حدّثت أن أبا قحافة سب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فصكّه أبو بكر أبنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: «أوفعلته، لا تعد إليه»، فقال: والذي بعثك بالحق نبيّا ولو كان السيف منى قريبا لقتلته.
وقال ابن مسعود: نزلت في أبى عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد اللّه بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدّى لأبى عبيدة وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل اللّه حين قتل أباه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. وقد سألت رجالا من بنى الحرث بن فهر فقالوا: توفى أبوه من قبل الإسلام. {أَوْ أَبْناءَهُمْ} يعني أبا بكر دعى ابنه عبد اللّه إلى البراز يوم بدر، فقال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم: «متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر». {أَوْ إِخْوانَهُمْ} يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص ابن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليّا وحمزه قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر.
وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبىّ صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتى بيانه أوّل سورة الممتحنة إن شاء اللّه تعالى. بيّن أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب.
الثانية: استدل مالك رحمه اللّه من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في اللّه، لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقى المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإنى وجدت فيما أوحيت {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ}». أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد اللّه.
وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس.
وقيل: جعل، كقوله تعالى: {فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي أجعلنا وقوله: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وقيل: {كتب} أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وقراءة العامة بفتح الكاف من {كتب} ونصب النون من {الإيمان} بمعنى كتب اللّه وهو الأجود، لقوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وقرأ أبو العالية وزرّ بن حبيش والمفضل عن عاصم {كتب} على ما لم يسمّ فاعله {الإيمان} برفع النون. وقرأ زرّ بن حبيش {وعشيراتهم} بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الأعمش عن أبى بكر عن عاصم.
وقيل: كتب في قلوبهم أي على قلوبهم، كما في قوله: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. {وَأَيَّدَهُمْ} قوّاهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى.
وقيل: برحمة من اللّه.
وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي قبل أعمالهم {وَرَضُوا عَنْهُ} فرحوا بما أعطاهم {أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهى! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى اللّه إليه: «يا داود الغاضّة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي».